الصدع الطائفي في سوريا- محركات الاستقطاب ومستقبل الوحدة الوطنية

في الآونة الأخيرة، شهدت محافظة السويداء أحداثًا عنيفة ومؤسفة، خلّفت وراءها شرخًا طائفيًا عميقًا في النسيج السوري. هذا الصدع الجديد يأتي بعد فترة وجيزة من صدع مماثل، نشأ إثر التمرد الذي قاده بعض بقايا النظام السابق في منطقة الساحل.
وعلى الرغم من أن جذور هذه الانقسامات الطائفية تمتد إلى ما قبل اندلاع العنف، إلا أنها أدت إلى تصعيد حدة الاستقطاب الطائفي في سوريا إلى مستويات غير مسبوقة، مما ينذر بعواقب وخيمة.
إن الإرث الثقيل للحرب الطاحنة، وحقبة الاستبداد التي فرضها نظام البعث البائد، والتي غذّت بدورها علاقات عدائية بين مختلف أطياف المجتمع السوري طوال العقود الماضية، بالإضافة إلى التدخلات الأجنبية المتزايدة خلال فترة الصراع وما بعدها، والتي كان لها دور بارز في تعميق الهوة الطائفية، كلها عوامل موضوعية تسهم في تفسير سياسة الهويات الطائفية التي باتت تهيمن على العلاقات بين مختلف الطوائف في سوريا بعد انهيار نظام الأسد.
هناك ثلاثة محركات رئيسية تدفع هذا الاستقطاب الطائفي نحو صراع محتدم، يتمحور حول منطق الأقليات في مواجهة الأكثرية، أو العكس، مما يزيد الوضع تعقيدًا:
- أولاً، البيئة القاتمة التي أنتجتها الحرب والتدخلات الخارجية المتعددة، والتي أدت إلى ترسيخ واقع الكيانات الطائفية والعرقية المتناحرة.
في شمال سوريا، أسهم التدخل العسكري للتحالف الدولي في الحرب ضد الإرهاب في نشأة مشروع الحكم الذاتي الكردي، بقيادة قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
وفي الجنوب السوري، سعى نظام الأسد إلى تحييد الدروز عن المشاركة الفعالة في الثورة، وذلك من خلال منحهم قدرًا من الإدارة اللامركزية. وعليه، فإن الطروحات المطروحة بشأن اللامركزية، والتي تتبناها قوات سوريا الديمقراطية والشيخ حكمت الهجري، تستمد قوتها بشكل أساسي من واقع هذه اللامركزية الذي ترسخ خلال حقبة الصراع المريرة.
وفي السويداء، ازداد الوضع تأزمًا وتعقيدًا مع التدخل الإسرائيلي السافر في الاشتباكات الأخيرة، حيث قدمت إسرائيل الدعم للجماعات المسلحة التي يقودها الشيخ الهجري في مواجهة الدولة السورية، التي سعت جاهدة إلى تعزيز وجودها في المدينة ونزع السلاح الخارج عن نطاق سيطرتها.
يثير هذا التدخل الإسرائيلي تساؤلات مشروعة حول أهداف الشيخ الهجري الحقيقية، وما إذا كان صراعه المحتدم ضد الدولة يهدف إلى تأسيس خصوصية إدارية لمنطقة السويداء، على غرار النموذج الكردي القائم في الشمال.
فإسرائيل لا تخفي أبدًا طموحها الجامح في تقسيم سوريا إلى كيانات طائفية متناحرة، مستغلة تقديم نفسها في صورة الداعم القوي للدروز، كجزء لا يتجزأ من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى التأثير السلبي على استقرار البنية الطائفية في سوريا.
- ثانيًا، المخاوف والهواجس التي تعبر عنها بعض المكونات تجاه الحكم الجديد، سواء كان ذلك بسبب تمثيله للأغلبية، أو بسبب خلفيته الأيديولوجية الواضحة.
قد تكون هذه الهواجس مفهومة بشكل جزئي، إلا أنها تبدو هامشية إلى حد كبير مقارنة بالدوافع الحقيقية التي تشكل سلوك هذه المكونات المختلفة.
فطروحات "قسد"، التي تراجعت من الفدرالية الكاملة إلى اللامركزية المحدودة، ستبقى حاضرة بقوة بغض النظر عن هوية السلطة الحاكمة في دمشق. والأمر نفسه ينطبق على حالة الشيخ الهجري، الذي طالب منذ بداية التحول بأطروحات الفدرالية واللامركزية الموسعة.
وفيما يتعلق بمنطقة الساحل، فإن التمرد الذي قام به فلول النظام السابق في شهر مارس/آذار الماضي، كان يهدف بشكل أساسي إلى إسقاط الدولة في تلك المنطقة، والتأسيس لواقع مماثل لما هو قائم في الجنوب ومناطق سيطرة "قسد"، من حيث الخصوصية الطائفية والعرقية.
- ثالثًا، تقاطع المصالح بين الأطراف الداخلية التي تعادي الحكم الجديد، بهدف تقويضه وإضعافه، وفرض تصوراتها الخاصة لمستقبل النظام السياسي في سوريا.
هذا التقاطع يبرز بوضوح منطق الصراع المحتدم بين الأقليات والأكثرية، التي يمثلها الحكم الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع. وعلى الرغم من النهج الوطني الذي يتبناه الرئيس الشرع، إلا أن ذلك لا يبدو كافيًا لتبديد هواجس هذه المكونات المختلفة، مما شكل حافزًا إضافيًا للتمسك بسياسات الهوية الطائفية والعرقية.
ومع أن رفض الرئيس الشرع لنظام المحاصصة الطائفية يستند إلى تجارب فاشلة في دول مثل لبنان والعراق، فإن البنية الطائفية المعقدة للمجتمع السوري تفرض ضرورة إشراك مختلف المكونات في السلطة، كمدخل حتمي لتحقيق الاستقرار الطائفي المنشود، وهو التحدي الأبرز الذي يواجه سوريا في هذه المرحلة الحساسة.
إن أحداث السويداء والساحل ليست مجرد اضطرابات طائفية عابرة، بل تعبر بصدق عن عمق الشرخ الطائفي الآخذ في الاتساع، والذي يهدد تماسك المجتمع السوري ويضغط بشدة على جهود الحفاظ على وحدة البلاد.
ففي السويداء، ساهمت أعمال العنف الأخيرة في التأسيس لبيئة عدائية مستدامة بين المكون الدرزي والدولة، وأضعفت التيارات الدرزية التي ترفض بشدة الاستثمار الإسرائيلي في شؤون الدروز، والاندماج في مشروع وطني شامل.
وينطبق الأمر ذاته على منطقة الساحل، حيث أدت أحداث شهر مارس/آذار الماضي إلى تعميق الشرخ الطائفي الذي كان موجودًا بالفعل خلال فترة الحرب المأساوية.
تهدف هذه البيئة العدائية بين مختلف المكونات إلى أن تصبح جزءًا أساسيًا من هوية سوريا الجديدة، مما يعيق بشدة بناء دولة متماسكة وقوية، ويؤسس لحقبة طويلة الأمد من سياسة الهويات الضيقة.
تقف سوريا اليوم على مفترق طرق مصيري. فخ منطق الأقليات والأكثرية يهدد بتقويض الجهود المضنية المبذولة لبناء دولة موحدة، ويعزز من احتمالات الانزلاق إلى دوامة لا تنتهي من الاضطرابات الطائفية والعرقية.
إن نجاح الحكم الجديد في تجاوز هذه التحديات الهائلة يتطلب رؤية إستراتيجية شاملة ومتكاملة، تركز بصورة أساسية على إعادة ترميم النسيج الوطني المتصدع، وبناء علاقة ثقة متينة مع المكونات المختلفة من خلال إشراكها الفعال في عملية بناء الدولة الجديدة، وتدشين حقبة المصالحة الوطنية الشاملة التي تشكل مدخلاً حاسمًا للحد من حالة الاضطراب الطائفي المتفاقمة.
ومثل هذه الخطوات ليست مجرد شعارات براقة، بل يجب أن تترجم إلى مسارات سياسية واضحة وممكنة، تحقق هذا الهدف النبيل. وبقدر ما تجلب مثل هذه الاضطرابات مزيدًا من الضغوط الهائلة على عملية التحول في سوريا، فإنها توفر أيضًا فرصًا ثمينة لتشخيص مكامن الضعف والخلل في هذه العملية المعقدة.